باروس ونهر أنغكولا: آثار تجارة العرب
تعدّ باروس، المدينة الصغيرة الواقعة على الساحل الغربي لسومطرة الشمالية، مدينة ذات تاريخ طويل لا يعرفه كثير من الناس. فمنذ قرون مضت، أصبحت باروس ميناءً مهمًا ترسو فيه السفن التجارية القادمة من بلدان متعددة. وكانت شاهدة على حركة التجارة البحرية الدولية في الأرخبيل الإندونيسي.
يُذكر في كتب المؤرخين أن باروس كانت معروفة باسم "فنسور" لدى التجار العرب، وهذا الاسم يشير إلى وجود نافورة ماء عظيمة في تلك المنطقة. وقد ذُكر اسم فنسور في العديد من المخطوطات القديمة العربية والهندية والصينية.
في كتاب Arab and the Eastern Trade للمؤرخ ساي مورلي، ذكر أن العديد من التجار العرب كانوا يسافرون من الهند إلى الصين، ويتوقفون طويلاً في سومطرة بانتظار هبوب الرياح. وكانوا يرسون في مرسى مرسالا، باروس، آتشيه، ملايو، بورنيو (كاليمنتان) ثم يتوجهون إلى كانتون.
ولم تكن باروس مجرد محطة استراحة، بل كانت نقطة انطلاق لانتشار الإسلام في المنطقة. ففي سنة 851 ميلادية، قام ثلاثة مسافرين عرب برحلة إلى الصين، هم سليمان وابن خرد هذبه وعدي مسقي، وتوقفوا أولًا في الساحل الغربي لسومطرة.
مرّ هؤلاء المسافرون بعدة مناطق استراتيجية مثل جزيرة مرسالا، باروس، لاموري، ملايو، كوتشينغ، ثم إلى كانتون. وذكر ابن خرد وعبدي مسقي أيضًا أنهم زاروا جزيرة سيمولو، سيتيري لابوتوو، جزيرة ساوا، ونهر أنغكولا.
كان نهر أنغكولا، الذي يقع اليوم في منطقة تابانولي الجنوبية، واحدًا من الطرق التجارية الحيوية قديمًا. حيث كان يستخدمه التجار العرب كطريق مائي للوصول إلى أعماق سومطرة، وجلب السلع الثمينة مثل الكافور والتوابل ومنتجات الغابات إلى ميناء باروس.
كما ذكر توماس أرنولد في كتابه Preaching of Islam أنه منذ سنة 684 ميلادية، وُجدت تجمعات سكنية للعرب في الساحل الغربي لتابانولي. وكان التجار العرب لا يكتفون بالتجارة، بل نشروا أيضًا تعاليم الإسلام.
وقد أصبحت القرى العربية في باروس دليلًا قويًا على أن هذه المنطقة كانت من أوائل مراكز الحضارة الإسلامية في الأرخبيل. ووفقًا لما أورده المسافر الصيني "إت سنغ"، فقد سكن العرب في الساحل الغربي لسومطرة منذ سنة 671 ميلادية.
وذكر "إت سنغ" أيضًا وجود أسواق تجارية في باروس، حيث كانت تتم الصفقات التجارية بين التجار العرب والصينيين والمحليين. وكانت هذه الأنشطة التجارية مزدهرة على مدار العام، تشكل شريانًا اقتصاديًا في المنطقة.
أما تأثير الإسلام الكبير الذي جلبه المسافرون العرب، فقد أدى إلى تأثر الثقافة المحلية بالدين الإسلامي. وما زالت حتى اليوم تقاليد بدء الدعاء بعبارات بسم الله والله حاضرة في أوساط المجتمع في باروس والمناطق المجاورة.
ووصل هذا التأثير أيضًا إلى منطقة كارو. حيث لا يزال بعض أتباع الديانات التقليدية يستخدمون الأدعية الإسلامية القديمة في طقوسهم وعاداتهم حتى الآن.
كما سجلت المخطوطات العربية والصينية القديمة نشاط التجارة العربية في باروس. ولم يقتصر الأمر على تبادل البضائع، بل شمل كذلك نشر الثقافة والتقنيات والدين.
وكان لنهر أنغكولا أهمية كبيرة، حيث ربط بين المناطق الداخلية لسومطرة والساحل الغربي، مما سهل حركة البضائع والناس. وكانت المنتجات مثل الكافور والراتنج والبهارات تُنقل من الداخل عبر النهر إلى ميناء باروس.
في ذلك الوقت، كان نهر أنغكولا يمثل شريانًا اقتصاديًا لشعب تابانولي الجنوبي. وقد أُقيمت على ضفافه العديد من الموانئ الصغيرة كمراكز تجارية ومساحات استراحة للتجار الأجانب.
تؤكد قصة باروس ونهر أنغكولا أن سومطرة الشمالية كانت منذ القدم جزءًا هامًا من خارطة التجارة العالمية. ولا تزال هذه الأهمية محفوظة في سجلات التاريخ.
وحتى اليوم، لا تزال العديد من المواقع الأثرية الإسلامية القديمة في باروس قائمة، من مقابر ومساجد تاريخية وأطلال الموانئ والقرى العربية.
ويشكل هذا التاريخ الثري مصدرًا ثقافيًا مهمًا لسومطرة الشمالية، يمكن استثماره في تنمية السياحة الثقافية والتاريخية. ولا تزال باروس ونهر أنغكولا شاهدَين على مجد ماضٍ عريق.
الإبتساماتإخفاء