الدكتور عادل محيي الدين الألوسي
نائب عميد كلية الآداب ـ جامعة ذمار ـ اليمن
منهج البحث
يعكس البحث أموراً ثلاثة:
الأول: أن العرب وصلوا إلى هذه الأصقاع منذ وقت مبكر على جناح التجارة واستوطنوا هناك. وبعد القرن السابع الميلادي، تحولوا إلى دعاة للإسلام الحنيف الذي وجد فيه الأندونيسيون حلولاً شافية لما يعانونه من تمزق ديني وظلم اجتماعي. وهذا يفسر لنا الإقبال المنقطع النظير الذي حظي به الإسلام.
الثاني: إن شعوب جنوب شرقي آسيا (بورما ولاوس وفيتنام وكمبوديا وسيام أو تايلاند وشبه جزيرة الملايو، أي ماليزيا الغربية؛ وأرخبيل الملايو الذي يضم سنغافورة وأندونيسيا، أي جزائر الهند الشرقية؛ وسريلانكا، أي سيلان أو سرنديب، والهند والسند…) والشرق الأقصى (الصين واليابان والفلبين) تعرفت الإسلام واعتنقته سلمياً وتدريجياً بأسلوب الجدل والإقناع الذي يستند إلى الحكمة والمنطق والموعظة الحسنة.
والأمر الثالث: قابلية اللغة والثقافة العربيتين، وهما في ظل الإسلام، للانتشار في بلدان نائية تبعد عن الأرض العربية آلاف الأميال بحيث تركت بصمات واضحة في حياة تلك البلدان، ولا سيما أندونيسا.
يتناول بحثي ثلاث فقرات:
الأولى: بواكير صلات العرب بأندونيسيا.
الثانية: كيفية وصول الإسلام إلى أندونيسيا.
الثالثة: عوامل الأسلمة الأندونيسية.
وأملي وطيد في أن أوفق بإذن الله.
1 ـ بواكير صلات العرب بأندونيسيا
ابتداء صلات بلاد العرب بالشرق الأسيوي قديمة قدم حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل، ربما تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد([1]). ركبت البحر على جناح التجارة عبر المحيط الهندي متخذةً من ضياء أكيلا (Acilla) الواقع على مقربة من رأس الخيمة (مسندم) في الخليج العربي منطلقاً لها. وفيما بعد تتابعت هجرات عرب جنوب شبه الجزيرة العربية في هذا الاتجاه. وتعد هجرة الحضارمة في الألف الرابع الميلادي، وعلى وجه التحديد قبيل انقراض الدولة الحميرية في اليمن، أعظم هجرة عربية منظمة إلى ربوع الشرق، حيث كون هؤلاء العرب في كوجرات التي يسميها العرب قزرات جالية كبيرة أطلق الهنود عليها اسم عربتو (Arabito)، ومنها انطلقوا صوب جزائر الهند الشرقية (أندونيسيا) والفلبين والصين([2]).
وترجع هجرتهم هذه إلى عوامل طبيعية تتمثل في قساوة مناخ جزيرة العرب الصحراوي الحار الجاف، فضلاً عن أزمات الجفاف التي كان نصيب حضرموت منها كبيراً([3]). وهناك من يرجع هجرتهم إلى أحداث سياسية تعرضت لها دولة الحميريين في اليمن أدت إلى تصدع الجبهة الداخلية وفقدان الأمن ووقوع البلاد تحت أطماع البيزنطيين والأمباس وأخيراً سيطرة الفرس([4]).
نزل هؤلاء الحضارمة أولاً في شواطئ سومطرة الشمالية الغربية، ومن ثم تسللوا إلى ثغور جاوة الشمالية وبقية الجزر الأخرى. لقد أثبتوا نشاطاً اقتصادياً لا يبارى وقدرة على الاتجار لا تجارى حتى وصلت سفنهم إلى أربعين سفينة تجوب أرخبيل الملايو ومكاسر الصين، وساعدهم على ذلك حسن معاملة الأندونيسيين لهم، مما شجعهم على استمرار تجاراتهم واستيطان بعضهم هناك. وكان لهؤلاء العرب النصيب الأوفر في نشر الإسلام لاحقاً ([5]).
هذه الفعاليات التجارية كانت بداية صلات العرب بالشرق الأقصى عموماً وبأندونيسيا على وجه الخصوص. ذلك بأن التجار العرب اتخذوا من الهند محطة توصلهم إلى سرنديب أولاً ثم إلى أندونيسيا ثانياً وإلى الصين وأطراف الشرق الأقصى أخيراً، وهو ما أكدته مؤلفات بلدانيِّينا أمثال سليمان التاجر في رحلته إلى الصين والهند والتي يرجع زمنها إلى سنة 237 هـ/ 851 م، وابن خرداذبة في مؤلفه أو دليله السياحي "المسالك والممالك" أواخر القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والمسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" الذي ألفه في حدود النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي ([6]).
يؤكد Chau Ju-Kua، وهو خبير متمرس بشؤون التجارة الخارجية في ميناء خانقو (كانتون) إبان القرن الرابع الهجري. ومن خلال عمله دوَّن كتابً بالصينية سماه "جوفان جي إي إي" ("تذكرة عن الأمم الأجنبية"): »إن الطريق البحري إلى الصين لابد من أن يمر عبر San-Fots، أي بالمبانغ في الساحل الشرقي لسومطرة التي يصفها بممر الأمم ومخزن تجارات العالم« ([7]). وثنى على هذه الأهمية ابن بطوطة الذي زعم أنه مر في طريق عودته من الصين بأندونيسيا بقوله ([8]):
بعد أن غادرت ميناء الزيتون ـ وهو ميناء اجوان شو في فوكين ـ جنوب الصين. وبعد شهرين وصلنا إلى الجاوة ونزلنا في سومطرة وقضيت فيها شهرين سافرت بعدها فوصلت بعد أربعين يوماً إلى كولم ـ أي كويلون ـ ومنها إلى قالقوط (ربما هي كلكتا الآن) ومنها إلى ظفار ومنها إلى مسقط.
كشفت التنقيبات الآثارية التي قامت بها وزارة الثقافة الأندونيسية عن ثلاثة آلاف رقيم حجري ومعدني مكتوبة بالعربية([9]) بعضها منقوش عليه بالخط المسند الحميري، والبعض الآخر عبارة عن شواهد قبور مدون عليها أبيات من الشعر العربي معلمة بالتاريخ الهجري. فقد كتب على قبر ابن عم الملك الكامل والذي كان داعية أسلم على يده كثير من أهل سومطرة الغربية الأبيات التالية ([10]):
إنمـا الدنيـا فنـاء ليس للدنيـا ثبوت
ولقد يكفيـك منها أيها الطـالب قـوت
إنمـا الدنيـا كبيت نسجته العنكبـوت
ليـس إلاَّ في قليـل كل ما فيهـا يمـوت
وتشكل الدراسات الجادة التي قام بها ثلاثة من المؤرخين الأندونيسيين مؤخراً أهمية خاصة. فقد أثبتت هذه الدراسات وجود التجار العرب في شواطئ سومطرة الشمالية وبالذات في أتشيه (Atjeh) قبل مجيء الإسلام حتى أن هذه الدراسات أطلقت عليها »الواجهة العربية في أندونيسيا« وأنه بظهور الإسلام تحول معظم هؤلاء المستوطنين إلى دعاة للدين الجديد. من هذه الدراسات ما ذكره البروفسور قدر الله الفاطمي الذي لخص تاريخ دخول الإسلام إلى أندونيسيا على النحو التالي([11]):
1 ـ أول اتصال جرى بين المسلمين والأندونيسيين كان عام 55 هـ/ 674 م.
2 ـ وصل الإسلام إلى مدن السواحل، أي سواحل سومطرة الشمالية منذ سنة 59 هـ/ 678 م.
3 ـ نال الإسلام السلطة السياسية وانتشر في أندونيسيا عام 602 هـ/ 1205 م.
أما الأستاذ نجيب الغطاس، فقد أكد أن أقدم المخطوطات التي تحدثت عن استيطان العرب المسلمين للأرخبيل الأندونيسيّ هي عبارة عن تقارير صينية، في حين ذهب الأستاذ محمد حسين نانيا إل أن وصول الإسلام إلى أندونيسيا قد حدث زمن الرسولr.
2 ـ بواكير صلات العرب بأندونيسيا
من المناسب أن نطرح جانباً احتمال أن يكون الإسلام قد دخل إلى أندونيسيا عن طريق المبشرين. ذلك بأن كلمة »مبشر« أو »إرسالية« (Missionary) لا وجود لها إلا في الدين المسيحي، فليس في الإسلام كنيسة أو رئاسة بابوية، بل هناك دين يتداخل مع الدولة يمثله الرسولr أو الخليفة الذي يجمع السلطتين الدينية والدنيوية، وأن انتشار الإسلام كان بطريقتين: إحداهما الفتح وفرضه بالقوة العسكرية إن لم تنفع الوسائل الإرضائية، ومن ثم دخول سكان البلاد المفتوحة في دين الدولة التي رعت مصالحهم وكفلت حقوقهم ناهيك عن الإيجابية التي تحلت بها العقيدة الإسلامية السمحاء، وهذا النمط في نشر الدعوة لم تتجاوز حدوده سواحل الهند. ومرد ذلك إلى البعد وضعف إمكانات الدولة البحرية إن لم نقل تهيبها من البحر ومخاطره. هنا يبرز السؤال: كيف وصل الإسلام إلى أندونيسيا؟
بالتأكيد، الإجابة تفرض نفسها؛ إذ لا وسيلة لهذا الوصول إلا بالطريق السلمي الذي تعد التجارة مرتكزه الأساسي. فطبيعة هذه الفعالية تتطلب انفتاحاً على الناس وتقرباً إليهم بإظهار الخلق والمعاملة الحسنة وبالصداقة وأحياناً بالزواد والمصاهرة التي كثيراً ما تنتهي بالاستيطان([12]). وهذا ما درج عليه العرب الحضارمة الذين وصلت طلائعهم إلى جزائر الهند الشرقية (أندونيسيا) منذ عهد مبكر يرجع إلى ثلاثة قرون سبقت الإسلام([13]). هذا، إذا كان التاجر ينشد الاتجار وسيلة عيش وربح ليس غير. أما إذا كان التاجر مسيساً يدعو لمعتقد، فلابد ـ والحالة هذه ـ من توافر قدر معين من المنطق يمكن أن يستعمله التاجر لبث ما يحمله من أفكار أو معتقدات؛ وهذا ما حدث للتجار الدعاة الذين نشروا الإسلام في هذه الأصقاع بالمنطق والمجادلة والموعظة الحسنة والإقناع مستندين في ذلك إلى قوله تعالى: }ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن{ ([14]).
وبشأن وصول الإسلام إلى أندونيسيا، نطرح الآراء التالية:
ـ الرأي الأول: يفترض أن التجار العرب ـ والحضارمة في مقدمتهم ـ هم أول من حمل الإسلام إلى »أرض الهند«([15]) وأندونيسيا منه. وبعد ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وتنامي قوته وتبلور مفاهيمه، تحول معظم هؤلاء التجار من العرب ـ وبعضهم كان قد استوطن ـ إلى دعاة لنشر الإسلام في أندونيسيا، وفي ذلك ضمان لمصالحهم التجارية وإبقاء لعقيدتهم التي آمنوا بها([16]).
لقد وفد الإسلام إلى أندونيسيا بين تيارات متعددة صينية وهندية وعربية وأوربية، تياراً متدفقاً سليماً وتدريجياً وساطته التجارة، ولكنه فعال في تأثيره وانتشاره. وذلك يعود إلى اعتناق الدين قبل تعلم شعائره وتفصيلاته، لأنه في وقت ما بدا متلائماً مع أسلوب الحياة الدارج وكأن العملية بكل ما فيها من أساسيات محاولة للتوفيق بين الإسلام الوافد والأنموذج الأندونيسي القائم. وهذا الفهم يفسر لنا ظاهرتين رافقتا دخول الإسلام إلى هذه الجزر، أولاهما: الإقبال المنقطع النظير الذي لقيه الإسلام حتى صار خلال قرون تلت دين الأغلبية الساحقة؛ وثانيتهما: أندونيسية الإسلام، أو بعبارة أخرى الخصوصية الأندونيسية التي فرضت نفسها لا في جوهر الإسلام المنصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية والتي لا مجال للتحريف والوضع فيها، ولكن في الشكل العام طقوساً وممارسات يومية([17]).
ـ الرأي الثاني: يفترض أن الدعاة الهنود هم أول من نشروا الإسلام في أرخبيل الملايو([18]). ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أن معرفة الهنود بأندونيسيا قديمة تمتد إلى بداية القرن الأول الميلادي. وخلال القرون التي تلت ظل الهنود يتجولون على طول شواطئ الأرخبيل تجّاراً ودعاة للهندوسية. وخلال ذلك، كانت الحضارة الأندونيسية تعرف بالحضارة الهندو ـ جاوية([19]). فاللغة السنسكريتية التي حملها الهنود أضافت إلى اللغة الملاوية مفردات أسهمت في تكوين لغة أندونسيا المعاصرة (Bahasd)؛ كما أن هناك دلائل اجتماعية منتشرة في سومطرة تعود في أصولها إلى العادات والتقاليد الهندية مثل الرقص والموسيقى والنحت والأدب والهندسة المعمارية ونظام الطبقة الدينية المتميزة، أي نظام القسس، ونظام المجاميع الاقتصادية ذات الاستقلال الذاتي([20]). ويذكرون التشابه المذهبي السائد في أندونيسيا والمتمثل في الشافعية التي يرجحون أنها انتقلت إليهم في سواحل كروماندل وملابار في الهند، فضلاً عن أن شكل الإسلام الشعبي بخصوصيته الأندونيسية وصفته الصوفية لها ما يشابهها تماماً في بلاد الهند([21]). وأخيراً، يفزع أصحاب هذا الرأي إلى الأدلة المادية ومنها المخطوطة التي وجدت في قرية سمدرة في ساحل سومطرة الشمالي الشرقي، وهي شهادة وفاة تكريمية مكتوبة على شاهد ضريح سلطان مالك الصالح الحاكم المسلم المتوفى في العام 696 هـ/ 1297 م. وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على هذه المخطوطة أن الحجر قد جلب من سواحل الهند الغربية بوساطة التجار الهنود الذين اعتنقوا الإسلام وتحولوا إلى دعاة للإسلام في أندونيسيا([22]).
ـ الرأي الثالث: ومفاده أن الإسلام دخل إلى أندونيسيا على يد الدعاة الفرس. وأصحاب هذا الرأي يستندون إلى حجج ودلائل، منها الخبرة التجارية التي عرف بها الإيرانيون. وعلى زعم حمزة الأصفهاني([23])، فإن أسطول الساسانيين زمن كسرى أنوشروان قد وصل إلى سواحل سرنديب، قبيل ظهور النفوذ البحري الإسلامي. حتى إن أهل الصين أطلقوا تسمية فارس (Pi-Se) على كل القادمين من منطقة الخليج العربي وجنوب الجزيرة العربية([24]). وفي هذا الصدد يذكرون أن هناك حروفاً وكلمات فارسية لها ما يشابهها في الفارسية، وأنه كان في حاشية ملك أتشيه فارسيان أحدهما في سيراز والآخر في أصفهان([25])، وأن مولانا ملك إبراهيم الذي يعد من أوائل الدعاة الذين نشروا الإسلام في جاوة، قد جاء من إيران([26])، مع أن الدراسات التي قام بها المؤرخان الهولنديان كرن (Kren) وموكيت (Moquette)على قبر هذا الداعية قد أثبتت أنه كان تاجراً ثرياً، ولكنه ليس فارسياً بالضرورة([27]).
ـ الرأي الرابع: يفترض أن الإسلام دخل إلى أندونيسيا بوساطة التجار الأندلسيين أنفسهم الذين وصل بعضهم بتجاراته إلى الخليج العربي منذ القرن السابع الميلادي، وكانت لهم علاقات رفاقية ومصالح متبادلة مع التجار المسلمين من الهنود ةالصينيِّين والعرب([28]). لقد أسهم التجار الأندونيسيون بدور ثانوي، ولكنه مهم في دخول أبناء جلدتهم في الإسلام؛ ذلك بأن الدعاة التجار بمختلف جنسياتهم كانوا قد احتكوا بالأهالي، وهؤلاء بدورهم لقنوه أفراد عائلاتهم ومنهم إلى أصدقائهم وعملائهم وهلم جرّاً، وهذا ما حدث في جاوة وبقية الجهات الشرقية([29]).
ويمكن أن نقسم الدعاة الذين شكلوا نواة الدعوة الإسلامية في أندونيسيا إلى: عرب سبق أن استوطنوا سواحل سومطرة الشمالية الغربية منذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، منهم من اعتنق الإسلام وهو في بلاد المهجر أو من حمله معه إلى هناك في هجرته؛ وإلى تجار غير عرب من جنسيات مختلفة نقلوا إسلامهم مع تجارتهم التي وصلوا بها إلى سواحل الأرخبيل([30]).
3 ـ عوامل الأسلمة الأندونسية
ظاهرة تحول أندونيسيا السريع نحو الإسلام ظاهرة لافاتة للنظر، ونرى أنها ترجع إلى عدة عوامل.
وفي مقدمة هذه العوامل العامل الديني المتمثل في عقيدة الإسلام ومبادئه التي دعت إلى رفع شأن انفرد وتحقيق ذاته، والقضاء على سلطة الكهنة البراهميين والنظام الطبقي الهندوكي، فضلاً عن أن الإسلام أشبع ميول السكان المحليين الروحية. فقد كان ممثلاً للسلطة في أشخاص الحكام المسلمين، وممثلاً للحضارة في أشخاص التجار الوافدين([31]). إن معتقدات المسلمين الصوفية وجدت توافقاً إلى حد ما مع المعتقدات الأندونيسية القديمة التي تميل إلى الفلسفة الغيبية كالإيمان بإلاهات الحسن الثلاث: الجمال والفنون والمهارات وهي على الأكثر تركة هندوسية، وإن الأساس الذي قامت عليه هذه المعتقدات هو ما يعرف بالحيوية (Animism) التي تشكل الأساس لكل تصورات الأندونيسيين الدينية القائمة على فكرة أن كل تقلبات الطبيعة ومظاهرها هي نتيجة لعمل قوى غيبية (فوق الطبيعة) وأغلبها أرواح شريرة يمكن إرضاؤها وتجنب غضبها بمنتهى الحذر والتعقل، وأن المكونات الأساسية لهذا الدين الأندونيسي قائمة على اعتقادين([32]): اعتقاد مفاده أن كل حي له نفس (soul) هي قوة حياته؛ وهي وإن كانت واحدة عند الجميع، فإنها قد تكون أقوى في واحد دون آخر أو إنها أكثر تمركزاً في جزء من أجزاء جسم الإنسان منه في جزء آخر. واعتقاد ثانٍ يؤمن بوجود نفس فردية تلازم الشخص الحي طوال حياته؛ وعند موته تبقى ملازمة للأماكن التي كان فيها أو ما يجاورها، وإن هذه النفس لا تنسحب من الاهتمام بشؤون الجماعة بل تبقى مهتمة بها ومشاركة فيها، وإن هذه النفس تغضب إذا ما خرج الأبناء على عادات الأجداد أو كفوا عن تأدية الواجبات لهذه الأرواح؛ ولذلك يحرص الأندونيسيون على المحافظة على قيمهم القديمة من خلال عبادة الأجداد والتمسك بالتراث.
لقد تجنب الإسلام استفزاز الخصوصيات التي تشبث بها السكان المحليون. وبعبارة أدق، صار الحل إلى توفيق أو قلْ تكييف بعض العادات والتقاليد بما يتقارب أو ينسجم مع مبادئ الدين الإسلامي. وبالطبع، إن عملية التوفيق لم تكن على حساب الركائز الدينية للإسلام، ونعني بها الفرائض الخمس: فمقابل التشدد في الإقرار بوحدانية الله ونبوّة محمد بن عبد الله r وترديد شعار الأسلمة (الشهادة) وإتيان واجبات العبادة المقدسة (الصلاة)، كانت هناك مرونة في تمرير روحانيات لا تتعلق بجوهر الإسلام([33]).
ثم العامل السياسي المتمثل في الصراع الداخلي بين الدويلات والإمارات الأندونيسية أولاً، وصراع هذه الكيانات المستمر ضد السلطة المركزية الهندوكية ثانياً. أسهم هذا العامل في دفع بعض أمراء هذه الدويلات وزعمائها ونبلائها إلى اعتناق الإسلام بوصفه سلاحاً فعالاً ضد الهندوك يحظى بتأييد شعبي يمكن أن نتلمسه في الإقبال الشديد الذي لقيه الإسلام بين السكان المحليين الذي خفف من اختلافاتهم العنصرية والعصبية والمصلحية في وحدة وطنية تنشد التحرر من السيطرة الأجنبية وبناء أندونيسيا المسلمة([34]).
وضمن هذا العامل تأتي الانتصارات المتلاحقة التي حققتها الدولة العربية الإسلامية في المجال السياسي والعسكري بصفتها قوة متوثبة أسقطت الكسروية الساسانية وكسرت شوكة الإمبراطورية البيزنطية وحررت الأراضي العربية التي أنَّتْ من سيطرتهما الطويلة. هذا المد الإسلامي انعكس إيجاباً ليس على حكام الدويلات الأندونيسية فقط، بل على كل حكومات جنوب شرقي آسيا والشرق الأقصى بشكل تسابقت معه هذه الحكومات عموماً على كسب ود الخلافة العربية الإسلامية التي حرصت بدورها على إقامة أحسن العلائق مع هذه الحكومات. ولا أدل على ذلك من كثرة السفارات والوفود المتبادلة بين الطرفين والتي وصلت إلى أكثر من ثلاثين سفارة وصلت إلى تلك البلاد النائية في العصرين الأموي والعباسي([35]). هذه الإيجابيات سهلت من مهمة الدعاة المسلمين على المستويين الشعبي والرسمي.
ومن العوامل التي أسهمت في الأسلمة الأندونيسية، العامل الاقتصادي الذي تمثله التجارة النشيطة بين جزر الأرخبيل أو التي تتجاوز المياه الأندونيسية إلى الصين والهند والخليج العربي، والتي يعول عليها بوصفها مصدراً للربح وزيادة الدخول عن طريق المكوس والضرائب المفروضة على التجارات التي تمر بموانئهم فضلاً عن البضائع المصدرة والمستوردة. ويلاحظ أن معظم من زاول التجارة كانوا من حكام المقاطعات والأمراء والنبلاء. ولما كانت التجارة عبر المحيط الهندي بيد العرب، فقد سعى التجار الآسيويون، ولا سيما الأندونيسيون منهم، إلى كسب صداقة التجار المسلمين؛ مما أدى بشكل أو بآخر إلى قبول بعض التجار أمراء ونبلاء بالدين الجديد. وهناك رواية تزعم أن سلطان باساي المسلم فتح أسواقه لحاكم مالقا مقابل إسلام الأخير([36]). وفي هذا الصدد، لابد لنا من أن ننوه بأن قيام الدولة العباسية، وانتقال مركز الخلافة إلى العراق وبناء بغداد، وتوسع وظائف ميناء البصرة التجارية، ونشوء علائق صداقة بين خلفاء بني العباس ومعاصريهم من حكام جنوب شرق آسيا والصين، وما صار إليه المجتمع العربي الإسلامي من تطور وتمدن، وما رافق ذلك من تعدد في الحاجات وزيادة في نسب الاستهلاك على نطاق الفرد والجماعة والدولة التي صارت السوق الأعظم للتجار، كما يقول ابن خلدون([37])، وما فرضه الإسلام من حج وحضه على الرحلة وطلب العلم، واهتمام بني العباس ببلدان الشرق وجهودهم في تأمين الطريق البحري الموصل إلى هذه البلدان، وما إلى ذلك من عوامل شجعت على ازدهار التجارة الإسلامية التي اتخذت من الخليج العربي والمحيط الهندي مسرحاً لنشاطها، ومن بغداد والبصرة منطلقاً لهذا النشاط التجاري المحموم([38]).
لقد وجد الأندونيسيون، تجاراً وصناعاً وفقراء عموماً، في الإسلام ديناً يمنحهم العدل والمساواة ومتنفساً يخلصهم من سيطرة الطبقات المستغلة بما أحياه فيهم من دينامية غذت العملية الثورية في أندونيسيا.
إن الرأي القائل بأن العاملين الاقتصادي والسياسي كانا الأساس في انتشار الإسلام في أندونيسيا، كما ذهب إلى ذلك فان لير، بتأكيده دور الطبقة الأرستقراطية والفئة الحاكمة، ويغفل ـ بقصد أو من غير قصد ـ خاصية الإسلام الإصلاحية الشاملة لكل نواحي الحياة، وأسلوبه الإقناعي الذي بدا في وقت ما ملائماً لنمط الحياة الأندونيسية الدارجة([39]).
إلى جانب ما ذكرنا، هناك عوامل أسهمت في هذه الأسلمة، منها أن التجار العرب استفادوا من الخبرة التي كونوها عن المجتمع الهندي الذي وطئته أقدامهم أول مرة في التكيف مع المجتمع الأندونيسي الذي يشبه إلى حد ما المجتمع الهندي([40])، مما أسهم في ارتفاع معنوياتهم وتحسن أوضاعهم النفسية فضلاً عن أن بعض التجار كانوا هنوداً مسلمين ولا يستبعد أن يكونوا أندونيسيين اعتنقوا الإسلام وأخذوا يدعون له. ثم إن طبيعة التجارة آنذاك يغلب عليها طابع المقايضة وتخلو من التنافس الرأسمالي ـ هذا النمط الاجتماعي والاقتصادي قرب، أو قلَّ حبب للمغترب فكرة التأقلم والاستيطان، وهو ما حدث مع بعض التجار المسلمين كما حدث لسابقيهم أو معاصريهم من الصينيين والهنود والإيرانيين مع فارق عنصر المؤاخاة والسواسية التي يؤمن بها الإسلام([41]). وكان لإغلاق ميناء خانقو (كانتون) في الصين دون التجار العرب والأجانب في أعقاب الاضطرابات والفتن الداخلية التي اجتاحت سواحل الصين الجنوبية بثورة أنلوشان عام 139 هـ/ 756 م، ونهب كاننتون عام 141 هـ، وأخيراً سقوط أسرة تانغ عام 294 هـ/ 906 م([42])، أثر في تحول طرق التجارة إلى موانئ أرخبيل الملايو، وصارت كله بار على الساحل لشبه جزيرة ملقا (سنغافورة الحالية) آخر نقطة تصلها السفن القادمة من الخليج العربي وجنوب الجزيرة العربية([43]). هذا التحول انعكس إيجاباً في ازدياد أهمية الموانئ الأندونيسية أولاً، وفي ازدهار التجارة العربية الأندونيسية ثانياً، مما أدى إلى تغلغل التجار العرب المسلمين في المجتمع الأندونيسي وبالتالي دخول عدد كبير من الأندونيسيين في الإسلام.
وأخيراً، نشير إلى
([44])
»
«
»يروموك«
r
2 ـ بواكير صلات العرب بأندونيسيا
من المناسب أن نطرح جانباً احتمال أن يكون الإسلام قد دخل إلى أندونيسيا عن طريق المبشرين. ذلك بأن كلمة
([1]) حوراني جورج مغنلو، العرب والملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل القرون الوسطى، دار الكتاب بمصر، 1958، ص. 1.
([2]) صلاح الدين البكري، "هجرة العرب إلى أندونيسيا"، ضمن مجلة الثقافة العربية المصرية، العدد 386، سنة 1946، ص. 19.
([3]) عادل محيي الدين الألوسي، تجارة العراق البحرية مع أندونيسيا حتى أواخر ق 7 هـ، بغداد، الشؤون الثقافية، 1984، ص. 127.
([4]) محمد إسماعيل الندوي، تاريخ الصلات بين الهند والبلاد العربية، دار فتح، بيروت، د. ت.، ص. 18.
([5]) البكري، مقال مذكور، ص. 20.
([6]) عادل محيي الدين الألوسي، العروبة والإسلام في جنوب شرقي آسيا، بغداد، الشؤون الثقافية، 1988، ص. 47.
([7]) The Chinese and Arab Trade in the Twelfth and Thirteenth Centuries, Translated by Hirth and Rock Hill, Amsterdam, 1966, p. 193.
([8]) شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الطندي ابن بطوطة (ت 779 عـ/ 1377 م)، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، مصر، 1964، ج 2، ص. 152.
([9]) Soedjamoko, An Introduction to Indonesian Historiography, New York, p. 48.
([10]) فيصل السامر، الأصول التاريخية للحضارة العربية الإسلامية في الشرق الأقصى، دار الطليعة، باريس، 1977، ص. 66.
([11]) وزارة الشؤون الدينية الأندونيسية، لمحة عن أندونيسيا، 1979، ص. 14.
([12]) Bernard H. M. Viekke, Nustantara : A History of Indonesia, Bandung, 1959, p. 83.
([13]) Wilford T. Nell, Twentieth Century Indonesia, Ney York and London, 1973, p. 250.
([14]) الآية 125 من سورة النحل.
([15]) "أرض الهند" تسمية أطلقتها مصادرنا التاريخية والبلدانية. وتمتد من الهند لتشمل معظم البلدان الواقعة إلى الشرق من شبه القارة الهندية. (يراجع أيضاً: القاموس السياسي، دار النهضة العربية، 1968، ص. 680).
([16]) صلاح الدين البكري، حضرموت السياسي، مصر، 1935، ص. 240.
([17]) نيووينهويجزه، "أندونيسيا"، تراث الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم وعبد المجيد عابدين، مصر، 1957، ص. 402.
([18]) سير توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم وعبد المجيد عابدين، مصر، 1957، ص. 402.
([19])Dorothy Woodman, The Republic of Indonesia, London, 1955, p. 131.
([20]) Op. cit., p. 132.
([21])
([22])
([23])
([24])
([25]) محاضرة عن جزر الهند الشرقية الهولندية، ألقاها إسماعيل الغطاس في نادي الشبان المسلمين بمصر، 1929، نشرت ضمن كتاب حاضر العالم الإسلامي، ص. 367.
([26]) M. C. Ricklefs, Jogjakarta under Sultan Mangkubumi 1749-1792, London, 1974, p. 3.
([27]) Soedjamoko, p. 82.
([28]) جوجيين تجوان، "الوضع التجاري المتغير للصين في جنوب شرقي آسيا"، ترجمة محمد اينش، ضمن المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية، ع 8، السنة الثانية، يوليو ـ سبتمبر، 1972، ص. 57.
([29]) Soedjamoko, p. 30.
([30]) Ricklefs, p. 2.
([31])
([32])
([33]) Nell, p. 254.
([34]) فيصل السامر، "الإسلام في أندونيسيا"، ضمن مجلة الأقلام، السنة الخامسة، آذار 1969، ص. 13.
([35]) F. R. S. Jpseph Needham, Sciences and Civilisation in China, Cambridge, 1971, vol. I, p. 215.
([36]) M. Allen Sierers, The mystical World of Indonesia, London, 1974, p. 44.
([37]) عبد الرحمن بن محمد الحضرمي ابن خلدون (ت 808 هـ/ 1405 م)، المقدمة، إحياء التراث، بيروت، د. ت.، ص. 55.
([38]) عادل محيي الدين الألوسي، تجارة العراق…، ص. 19 وما بعدها.
([39]) مقالة "أندونيسيا"، ضمن تراث الإسلام، ص. 214.
([40]) moko, p. 30. Soedja.
([41]) Op. cit., p. 43.
([42])
([43])
([44])
الإبتساماتإخفاء